يتفكرون، ثم يعقلون، ثم يذكرون وبعد هذا يشكرون
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين،
قال الله : (هُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكم مِنهُ شَرابٌ ومِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكم بِهِ الزَّرْعَ والزَّيْتُونَ والنَّخِيلَ والأعْنابَ ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأمْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وما ذَرَأ لَكم في الأرْضِ مُخْتَلِفًا ألْوانُهُ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وهو الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ (١٤))
من الواجب على كل مسلم تدبر القرآن الكريم وفهم معانيه وذلك للوصول الى الغاية القصوى. والقُصْوى والقُصْيا: الغاية البعيدة. وأَقصاه: أَبعده. وقوله تعالى: (إلى المسجد الأقصى) أَى بَيْت المَقْدِس، سمّاه الأَقصى اعتباراً بمكان المخاطبين به من النبىّ ﷺ وأَصحابه. فالمراد هنا أن فهم معاني القرآن الكريم هي الوسيلة المثلى للوصول للجنة وهي أبعد مكان موجود لم يصل أليه البشر. وأعلى مافي الجنة هي جنات الفردوس (إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا)، ولنبلغ هذا المكان، علينا فهم معاني القرآن والعمل بها وكذلك إتباع هدي نبينا الكريم المصطفى صلوات الله عليه.
[مَن آمَنَ باللَّهِ وبِرَسولِهِ، وأَقامَ الصَّلاةَ، وصامَ رَمَضانَ كانَ حَقًّا علَى اللَّهِ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ أوْ جَلَسَ في أرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فيها، فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قالَ: إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللَّهِ، ما بيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ – أُراهُ – فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ]
الراوي:أبو هريرة
المحدث:البخاري
المصدر:صحيح البخاري الجزء أو الصفحة:2790
حكم المحدث:[صحيح]
قال الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤء فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَ ٰت مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَ ٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِیض وَحُمۡر مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهَا وَغَرَابِیبُ سُود (٢٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَاۤبِّ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ كَذَ ٰلِكَۗ إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ (٢٨)﴾ [فاطر ٢٧-٢٨]
هل تفكرنا يوم في هذة الآية وسألنا أنفسنا ماعلاقة إنزال الماء من السماء، وإنبات الأرض وألوان الناس وادواب بعباد الله العلماء والذى رفع شأنهم الله وذكر في الآية (إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ) ؟
لنسأل أولا من هم هؤلاء العلماء الذين يقصدهم الله؟ ومثلما يستدل العامة بهذة الآية، هل هم علماء الطبيعة؟ علماء الرياضيات؟ علماء ماذا؟
أولا لنقسم العلم الى علمين لاينتهي الحديث عنهم ولكن لتبسيط الصورة، لنقل أن هناك علوم الأرض وهي العلوم اللتي أكتشفها الإنسان وطورها واللتي تحتمل الصح والخطأ، والعلوم الثانية هي علوم السماء اللتي ينزلها الله لينور بها العباد ويرشدهم للطريق الصحيح في الدنيا مما يؤدي للوصول للطريق الصحيح في الآخرة.
فالطريقة الوحيدة للوصول الى أعلى مراتب علوم الأرض هي الإرتقاء في تعلم ومعرفة علوم السماء والعمل بها. وهنا يمكننا أن نقول على هذة الفئة أنهم العلماء الذين يتحدث عنهم الله في الآية الكريمة.
عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) أخرجه البخاري
عن أبي هريره رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) أخرجه مسلم
إذا ماهو هذا العلم الذي يتحدث عنه رسولنا الكريم؟
جمعنا بعض الأقوال هنا وهذا قول ابن عثيمين
إن العلم الذي هو محل الثناء هو العلم الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه
قال ابن رجب معرّفا بهذا العلم: (فالعلم النافع هو ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل..)
وقال ابن حجر: (والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه)
فالعلم الذي يقصده نبينا الكريم في ما روي عنه هو العلم الشرعي، وهذا بإجماع أغلبية أهل العلم. فهل يعنى هذا أن نترك العلوم الأخرى؟ الجواب بالتأكيد لا لكن العلم الشرعي هو دليلك للوصول للعلم الدنيوي الصحيح وبالعلم الشرعي أو كما نقول علم السماء، سوف تكون مبدعاً في علوم الأرض كما فعل من سبقونا من المسلمين فقاموا بإختراع العدسات، علم الجبرة، الخوارزميات، علم الطيران، علم الفلك، وغيرها. فقط أنظر الى كيفية العلم وقتها لتعلم أننا نحتاج الى إعادة النظر في مناهجنا الدراسية.
ولكن في آية سورة فاطر، ماعلاقة السماء، الماء، الوان الجبال والناس والدواب بالعلماء؟
وكأن الله يرشدنا هنا ويعطينا مفتاح للدخول الى قلب هذا العلم. المفتاح أنه من يتفكر في آيات الله، يتعلم ويخشى. هذا هو المفتاح، أفلا تكون عبدا شكوراً؟
قال الله : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ يعني لا يخشى اللهَ إلا العلماء، والخشية هي أعلى الخوف، أو إن شئت فقل: هي الخوف المبني على العِلْم، وبعضهم قال: هي الخوف المبني على عِظَم الْمَخُوف ولا يمتنع أن تكون الخشية هي الخوف بكل الأنواع الثلاثة؛ يعني هي أعلى أنواع الخوف، أو الخوف المبني على العلم، أو الخوف المبني على عِظَم الْمَخُوف، أما الخوف المجرد عن الخشية؛ فهو قد يكون عن جهل يخاف الإنسان من شيء؛ لأنه جاهل به، وإلا فليس أهلًا لأن يُخَاف منه
فالعلماء المقصود بهم في الآية هم من يتفكرون، ثم يعقلون، ثم يذّكرون وبعد هذا يشكرون. فبهذا تكون بصيرته بقلبه وليس فقط بعينه، فيبدأ بالتفكر وهذة المرحلة الأولى ثم يرتقي ليعقل وهؤلاء هم أولو الألباب ثم يذّكر فيصبح قلبه منيب ويُرجع كل شيء الى الله وبعد كل هذا يشكر ليزيده الله في علمة، وهذة اقوى وأعلى وأحسن معادلة إذا أتقنها الأنسان، إرتقى في الدنيا ليصل إلى الآخرة.
تحدثنا عن القلب المنيب في السابق وتم تعريف وهذة نبذه بسيطة:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى دنيا يصيُبها، أو إلى امرأةٍ ينكحها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه
الراوي:عمر بن الخطاب
المحدث:البخاري
المصدر:صحيح البخاري الجزء أو الصفحة:1 حكم
المحدث:[صحيح]
ومعنى هذا أن القلب السليم هو الأساس في العبادة الصحيحة، أما كلمة ينيب أو منيب، فقال الله: ( إِنَّ إِبۡرَ ٰهِیمَ لَحَلِیمٌ أَوَّ ٰه مُّنِیب)
والأوّاهُ أصْلُهُ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأوُّهَ، وهو قَوْلُ: أوِّهِ. وأوِّهِ: اسْمُ فِعْلٍ نائِبٍ مَنابَ أتَوَجَّعُ، وهو هُنا كِنايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اهْتِمامِهِ بِهُمُومِ النّاسِ.
والمُنِيبُ مَن أنابَ إذا رَجَعَ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوْبِ وهو النُّزُولُ. والمُرادُ التَّوْبَةُ مِنَ التَّقْصِيرِ، أيْ مُحاسِبٌ نَفْسَهُ عَلى ما يَحْذَرُ مِنهُ.
وحَقِيقَةُ الإنابَةِ: الرُّجُوعُ إلى الشَّيْءِ بَعْدَ مُفارَقَتِهِ وتَرْكِهِ. (التعريف منقول من إبن عاشور)
قال الله : (هُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكم مِنهُ شَرابٌ ومِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكم بِهِ الزَّرْعَ والزَّيْتُونَ والنَّخِيلَ والأعْنابَ ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأمْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وما ذَرَأ لَكم في الأرْضِ مُخْتَلِفًا ألْوانُهُ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وهو الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ (١٤))
قال إبن القيم في باب التفكر والتذكر:
وَتَأمل كَيفَ وحد سُبْحانَهُ الآية من قَوْله ﴿هُوَ الَّذِي أنزل من السَّماء ماء لكم مِنهُ شراب﴾ إلى آخرها
وختمها بأصحاب الفكرة.
فأما تَوْحِيد الآية فَلِأن مَوضِع الدّلالَة واحِد وهو الماء الَّذِي أنزله من السَّماء فَأخرج بِهِ كلما ذكره من الأرض وهو على اخْتِلاف أنواعه لقاحه واحِد وأمه واحِدَة، فَهَذا نوع واحِد من آياته.
وَأما تَخْصِيصه ذَلِك بِأهْل الفِكر فَلِأن هَذِه المَخْلُوقات الَّتِي ذكرها من الماء مَوضِع فكر وهو نظر القلب وتأمله لا مَوضِع نظر مُجَرّد بِالعينِ فَلا ينْتَفع النّاظر بِمُجَرَّد رُؤْيَة العين حَتّى ينْتَقل مِنهُ إلى نظر القلب في حِكْمَة ذَلِك وبديع صنعه والِاسْتِدْلال بِهِ على خالقه وباريه وذَلِكَ هو الفِكر بِعَيْنِه.
وأما قوله تَعالى في الآية الَّتِي بعْدها ﴿إن في ذَلِك لآيات لقوم يعْقلُونَ﴾ فَجمع الآيات لأنها تَضَمَّنت اللَّيْل والنَّهار والشَّمْس والقَمَر والنجوم وهِي آيات مُتعَدِّدَة مُخْتَلفَة في أنفسها وخلقها وكيفياتها، فَإن إظلام الجو لغروب الشَّمْس ومجيء اللَّيْل الَّذِي يلبس العالم كالثَّوْبِ ويسكنون تَحْتَهُ آيَة باهرة، ثمَّ ورد جَيش الضياء يقدمهُ بشير الصَّباح فينهزم عَسْكَر الظلام وينتشر الحَيَوان وينكشط ذَلِك اللباس بجملته آيَة أخرى، ثمَّ في الشَّمْس الَّتِي هي آيَة النَّهار آيَة أُخْرى، وفي القَمَر الَّذِي هو آيَة اللَّيْل آيَة أخرى وفي النُّجُوم آيات أخر كَما قدمْناهُ، هَذا مَعَ ما يتبعها من الآيات المُقارنَة لَها من الرِّياح واختلافها وسائِر ما يحدثه الله بِسَبَبِها آيات أخر، فالموضع مَوضِع جمع، وخص هَذِه الآيات بِأهْل العقل لأنها أعظم مِمّا قبلها وأدل وأكبر والأولى كألباب لهَذِهِ، فَمن اسْتدلَّ بِهَذِهِ الآيات وأعطاها حَقّها من الدّلالَة اسْتحق من الوَصْف ما يسْتَحقّهُ صاحب الفِكر وهو العقل، ولِأن منزله المنزلَة العقل بعد منزلَة الفِكر فَلَمّا دلهم بالآية الأولى على الفِكر نقلهم بالآية الثّانِيَة الَّتِي هي أعظم مِنها إلى العقل الَّذِي هو فَوق الفِكر فَتَأمّله.
فَأما قَوْله في الآية الثّالِثَة ﴿إن في ذَلِك لآيَة لقوم يذكرُونَ﴾ فَوحد الآية وخصها بِأهْل التَّذَكُّر فَأما توحيدها فكتوحيد الأولى سَواء فَإن ما ذَرأ في الأرض على اختلافه من الجَواهِر والنبات والمعادن والحَيَوان كُله في مَحل واحِد، فَهو نوع من أنواع آياته وإن تعدّدت أصنافه وأنواعه.
وأما تَخْصِيصه إياها بِأهْل التَّذَكُّر فطريقة القُرْآن في ذَلِك أن يَجْعَل آياته للتبصر والتذكر كَما قالَ تَعالى في سُورَة ق ﴿والأرْض مددناها وألقينا فِيها رواسي وأنبتنا فِيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب﴾
فالتبصرة التعقل والتذكرة التَّذَكُّر والفكر باب ذَلِك ومدخله فَإذا فكر تبصر، وإذا تبصر تذكر، فجاء التَّذْكِير في الآية لترتيبه على العقل المُرَتّب على الفِكر فَقدم الفِكر إذْ هو الباب والمدخل، ووسط العقل إذْ هو ثَمَرَة الفِكر ونتيجته، وأخر التَّذَكُّر إذْ هو المَطْلُوب من الفِكر والعقل فَتَأمل ذَلِك حق التَّأمُّل.
فَإن قلت فَما الفرق بَين التَّذَكُّر والتفكر؟ فَإذا تبين الفرق ظَهرت الفائِدَة؟
قلت التفكر والتذكر أصل الهدى والفلاح وهما قطبا السَّعادَة، ولِهَذا وسعنا الكَلام في التفكر في هَذا الوَجْه لعظم المَنفَعَة وشدَّة الحاجة إليه قالَ الحسن ما زالَ أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التَّذَكُّر ويناطقون القُلُوب حَتّى نطقت فَإذا لَها أسماع وأبصار
فاعْلَم أن التفكر طلب القلب ما لَيْسَ بحاصل من العُلُوم من أمْر هو حاصِل مِنها هَذا حَقِيقَته فَإنَّهُ لَو لم يكن ثمَّ مُراد يكون موردا للفكر اسْتَحالَ الفِكر، لأن الفِكر بِغَيْر مُتَعَلق متفكر فِيهِ محال، وتلك المواد هي الأمور الحاصِلَة ولَو كانَ المَطْلُوب بها حاصِلا عِنْده لم يتفكر فِيهِ، فَإذا عرف هَذا فالمتفكر ينْتَقل من المُقدمات والمبادي الَّتِي عِنْده إلى المَطْلُوب الَّذِي يُريدهُ فَإذا ظفر بِهِ وتحصل لَهُ تذكر بِهِ وأبصر مواقع الفِعْل والتّرْك، وما يَنْبَغِي إيثاره، وما يَنْبَغِي اجتنابه، فالتذكر هو مَقْصُود التفكر وثمرته فَإذا تذكر عاد بتذكرة على تفكره فاستخرج ما لم يكن حاصِلا عِنْده، فَهو لا يزال يُكَرر بتفكره على تذكره، وبتذكره على تفكره ما دامَ عاقِلا، لأن العلم والإرادة لا يقفان على حد بل هو دائِما سائِر بن العلم والإرادة، وإذا عرفت معنى كَون آيات الرب تبارك وتَعالى ﴿تبصرة وذكرى﴾ يتبصر بها من عمى القلب ويتذكر بها من غفلته، فإن المضاد للْعلم إما عمى القلب وزواله بالتبصر، وإمّا غفلته وزواله بالتذكر، والمَقْصُود تَنْبِيه القلب من رقدته بالإشارة إلى شَيْء من بعض آيات الله، ولَو ذَهَبْنا نتتبع ذَلِك لنفذ الزَّمان ولم نحط بتفصيل واحِدَة من آياته على التَّمام، ولَكِن ما لا يدْرك جملَة لا يتْرك جملَة، وأحسن ما أنفقت فِيهِ الأنفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه، والانتقال مِنها إلى تعلق القلب والهمة بِهِ دون شَيْء من مخلوقاته.
وفِي درة التنزيل:
وأبْدى الفَخْرُ في (دُرَّةِ التَّنْزِيلِ) وجْهًا لِاخْتِلافِ الأوْصافِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١١]، وقَوْلِهِ ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: ١٢]، وقَوْلِهِ ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾: بِأنَّ ذَلِكَ لِمُراعاةِ اخْتِلافِ شِدَّةِ الحاجَةِ إلى قُوَّةِ التَّأمُّلِ بِدَلالَةِ المَخْلُوقاتِ النّاجِمَةِ عَنِ الأرْضِ يَحْتاجُ إلى التَّفْكِيرِ، وهو إعْمالُ النَّظَرِ المُؤَدِّي إلى العِلْمِ، ودَلالَةُ ما ذَرَأهُ في الأرْضِ مِنَ الحَيَوانِ مُحْتاجَةٌ إلى مَزِيدِ تَأمُّلٍ في التَّفْكِيرِ لِلِاسْتِدْلالِ عَلى اخْتِلافِ أحْوالِها وتَناسُلِها وفَوائِدِها، فَكانَتْ بِحاجَةٍ إلى التَّذْكِيرِ، وهو التَّفَكُّرُ مَعَ تَذَكُّرِ أجْناسِها واخْتِلافِ خَصائِصِها، وأمّا دَلالَةُ تَسْخِيرِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والعَوالِمِ العُلْوِيَّةِ؛ فَلِأنَّها أدَقُّ وأحْوَجُ إلى التَّعَمُّقِ، عَبَّرَ عَنِ المُسْتَدِلِّينَ عَلَيْها بِأنَّهم يَعْقِلُونَ، والتَّعَقُّلُ هو أعْلى أحْوالِ الِاسْتِدْلالِ اهـ.
[…] نعقل، نتذكر، ننيب ونشكر كما تبين هذا في أول سورة النحل وبهذا نفهم القرآن بأوجهه باذن الله وبفضله لنشكره على […]
LikeLike
[…] الذي يعقل مافي كتاب الله، وهذة المرحلة الثانية التي صنف بها الله […]
LikeLike
[…] يصعب تفسير الفؤاد بأنه العقل وحده لأن العقل في القرآن مربوط بالتدبر في آيات الله، […]
LikeLike
[…] وتحكيم العقل على النقل، المؤمنين الذين يعلمون في ماذا يتفكرون ويعقلون وفي ماذا فقط يسلمون ويؤمنون، المؤمنون الذين يفلحون […]
LikeLike
[…] ذكرنا أن القرآن الكريم أوضح لنا الأمور التي يجوز ان تعقل فيها من الأمور التي تتطلب الإيمان المطلق […]
LikeLike
[…] قال الله ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، وفي هذه الآية حث على التعقل وهذا دليل على أن كتاب الله ليس بعلم تلقني بل يتطلب التفكر والتذكر والتعقل […]
LikeLike
[…] والتفكر هنا وخاصة فيما يخص الأمور التي تغيب عن ناظرنا تقتضي التأمل في ما وصفه الله في كتابه بعد الإيمان المطلق بكلام الله دون إضافات أو القول أن المقصود هو كذا أو كذا وبهذا يدخل الإنسان في عالم الظنون. القرآن لا يفسره إلا القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الأخذ بمنطلق اللغة العربية […]
LikeLike
[…] التي فطر الله الناس عليها وفيه يقوم الإنسان باستخدام العقل والقلب والأفئدة استخداما صحيحاً ليحاسبه الله على […]
LikeLike