منها خلقناكم
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
قال الله ( ۞ مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ) صدق الله العظيم
تدارسنا هذه الآية الكريمة في عدة مواضع فقلنا انها تفسر معنى قوله تعالى ( أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ كِفَاتًا)، أي ان الأرض نظام مغلق تضم فيها الأحياء والأموات ثم في يوم المحشر تخرج هذه الأرض أثقالها أي كنوزها وموتاها وتدك دكاً دكاً. فعلمنا أنه لايمكن النفاذ من أقطار السموات ولا الأرض إلا بسلطان
نهدف من هذا التدبر معرفة المزيد من الحكم والعبر والمعاني الموجودة في سورة طه وكذلك التحقيق في معنى آية (مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ)، بصورة دقيقة لما تشمله من معاني عميقة وهذه الدراسة ماهي الا تكملة لدراسات سابقة عن قصة سيدنا آدم وكذلك مكانها
قال الله ( قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَاداً لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدا ) صدق الله العظيم
وفي الآية الأخرى (وَلَوۡ أَنَّمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَـٰم وَٱلۡبَحۡرُ یَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُر مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیم) صدق الله العظيم
أي: اذا كانت هذه الأبحر الموجودة في العالم (مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ْ) وكذلك أشجار الدنيا من أولها إلى آخرها، من أشجار البلدان والبراري، والبحار، أقلام، (لَنَفِدَ الْبَحْرُ ْ) وتكسرت الأقلام (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ْ) وهذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد
وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية، وأما كلام الله، فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فالله فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله تعالى، كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته، فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم، أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته، ذلك بأن الله، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى – الشيخ السعدي
ذكرنا هذه المقدمة لما في آية ( مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ) من عمق وكذلك لأننا سنذكر وجه لمعاني هذه الآية الكريمة وقد تم فهمه من تدبرات سابقة ولم نجد مطابقة لهذا المعنى الى في تفسير القرطبي على حد علم الكاتب ولذلك سنحاول الإجتهاد في تقديم كل الأدلة لإثبات صحة هذا التدبر
فالمتعارف عليه في معنى هذه الآية هو بما أخبر عز وجل أنه خلقنا منها، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها، ومنها يخرجنا تارة أخرى، فكما أوجدنا منها من العدم، وقد علمنا ذلك وتحققناه، فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا، ليجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها
وهي كما في قوله تعالى ( قَالَ فِیهَا تَحۡیَوۡنَ وَفِیهَا تَمُوتُونَ وَمِنۡهَا تُخۡرَجُونَ) صدق الله العظيم
ولكن هل توجد معاني أخرى لهذه الآية؟
تم فهم معنى هذه الآية وهو المعنى الموجود في كتب التفسير بتخصيص الأحداث التي تحصل في الأرض. ففيها خُلق سيدنا آدم والإنسان عامة المخلوق من تراب الأرض ثم موته ودفنه في التراب ثم خروجه منها، وهذا معنى واضح وصريح. ولكن هل لهذه الآية علاقة بالجنة والسموات؟ لنتتبع الآيات الموجودة في سورة طه لمحاولة فهم هذا الوجه
وصريح الآية يفيد أنه خُلق سيدنا آدم من الأرض كما في قوله تعالى ( ۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَـٰلِح قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی قَرِیب مُّجِیب) صدق الله العظيم
فسيدنا آدم خُلق من الأرض وكان في جنة الخلد ثم هبط هو وزوجه (فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِین) صدق الله العظيم
ومعهم تم إخراج إبليس من الجنة وهبوطه الى الأرض ( قُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ مِنۡهَا جَمِیعاۖ فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدى فَمَن تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ) صدق الله العظيم
وكذلك في قوله تعالى ( قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِیم)، اي أخرج من الجنة وقيل السموات فاحتمال ان تكون الجنة ولكن ليست الفردوس أو أعلى عليين
ولننتقل الى سورة طه لمحاولة فهم سياق الآيات
أتت آية ( مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ) بعد الحديث الذي دار بين سيدنا موسى وفرعون فقال الله ( ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـَٔایَـٰتِی وَلَا تَنِیَا فِی ذِكۡرِی (٤٢) ٱذۡهَبَاۤ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (٤٣) فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلاً لَّیِّناً لَّعَلَّهُۥ یَتَذَكَّرُ أَوۡ یَخۡشَىٰ) صدق الله العظيم
فكان الخبر الذي جاء به سيدنا موسى من عند الله هو ( إِنَّا قَدۡ أُوحِیَ إِلَیۡنَاۤ أَنَّ ٱلۡعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) صدق الله العظيم
فقال فرعون لموسى ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا یَـٰمُوسَىٰ) صدق الله العظيم
فرد سيدنا موسى ( قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِیۤ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَیۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ ) صدق الله العظيم
أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق، وفي قوله (ثُمَّ هَدَى)، اي كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات فكل مخلوق، تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه
فهنا نقول لعل فرعون فكر وقدر في كيفية معرفة ما اذا كان فعلاً ما يقوله موسى هو وحي من عند الله ففكر في سؤاله عن القرون الأولى
فقال فرعون ( قَالَ فَمَا بَالُ ٱلۡقُرُونِ ٱلۡأُولَىٰ ) صدق الله العظيم
فقال موسى لفرعون ( قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّی فِی كِتَـٰب لَّا یَضِلُّ رَبِّی وَلَا یَنسَى) صدق الله العظيم
وهنا سيدنا موسى يفيد بان الله يهدي السبيل ولا يُضل ( إِنَّا هَدَیۡنَـٰهُ ٱلسَّبِیلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُورًا)، والكفور هو من يضِله الله ( مَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَا هَادِیَ لَهُۥۚ وَیَذَرُهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ)، والله لا ينسى وهو محيط بكل شيء
فبعد هذا وفي الرد على فرعون قال الله ( ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡداً وَسَلَكَ لَكُمۡ فِیهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤء فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦۤ أَزۡوَ ٰجاً مِّن نَّبَات شَتَّىٰ (٥٣) كُلُوا۟ وَٱرۡعَوۡا۟ أَنۡعَـٰمَكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰت لِّأُو۟لِی ٱلنُّهَىٰ (٥٤) ۞ مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ (٥٥) وَلَقَدۡ أَرَیۡنَـٰهُ ءَایَـٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ (٥٦)﴾ [طه ٥٣-٥٦] صدق الله العظيم
والآن لاحظ ماهو رد سيدنا موسى على فرعون عندما سأله عن القرون الأولى، بإختصار كان جوابه يفيد وكأنه قال له أن العلم عند الله. وفي هذا إختبار لفرعون ليصدق موسى أم لا، لأن سيدنا موسى قال له انه مرسول من الله الذي أوحى له. وهنا أفاده ان الله كان يسمع ويرى وقد يكون قد أوحى لموسى أن يقول أن العلم عند الله أم أن سيدنا موسى وجد أن هذه هي الإجابة المناسبة
وكان رد فرعون التكذيب لهذه المحادثة وحتى بعد أن أراه آيات الله، كان التكذيب والتكبر هو ما أصر عليه (وَلَقَدْ أَرَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ ) صدق الله العظيم
وبعد هذا تحكي السورة قصة سيدنا موسى وقصة السامري وطغيان بني إسرائيل. ولكن سؤال فرعون عن القرون الأولى وجواب موسى له في قوله تعالى ( قَالَ فَمَا بَالُ ٱلۡقُرُونِ ٱلۡأُولَىٰ (٥١) قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّی فِی كِتَـٰب لَّا یَضِلُّ رَبِّی وَلَا یَنسَى)، ففي الآيتين سؤال وجواب غير مكتمل وقد أفاد موسى أن الله لاينسى وأن الجواب عند الله. وفي السورة أجاب الله على سؤال فرعون على ما قاله سيدنا موسى
فالله لا ينسى ولكن من الذي نسى في السورة؟ ومن يُضل؟ قال الله في قصة السامري ( فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلاً جَسَداً لَّهُۥ خُوَار فَقَالُوا۟ هَـٰذَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِیَ) صدق الله العظيم
أكد أبن عاشور أن قوله تعالى ( فَنَسِیَ) تعود الى السامري
كما قال إبن عباس “أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامري: أنه نسي، أي ترك ما كان عليه من الإيمان” فيظهر لنا أن السامري يُضل وهو في ضلال وكذلك ينسى فهذا جواب لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على من يُضل وينسى وهو بالنسبة لرسولنا جواب من القرون الأولى
ثم ننتقل الى جواب آخر من الله وفيه الجواب لسيدنا آدم فأختار له قصة سيدنا آدم والجنة
قال الله ( وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا)، فالإنسان من النسيان وهذا سيدنا آدم ينسى ماقاله الله له. فنعلم أن معصيته ليست من الطغيان بل هي من النسيان فاحذر يا أيها الإنسان من النسيان ولتعلم ان الله هو الرحمان الذي يرحم العباد فأشكر وتب الى الله كل يوم
فأنظر الى جواب سؤال فرعون عن القرون الأولى في السورة
قال الله للملائكة وابليس ( وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ ) صدق الله العظيم
ثم قال الله لآدم (فَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوّ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا یُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰۤ ) صدق الله العظيم
وقال له ( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِیهَا وَلَا تَعۡرَىٰ (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُا۟ فِیهَا وَلَا تَضۡحَىٰ ) صدق الله العظيم
ولكن كما ذكرنا سابقاً أن سيدنا آدم لم يكن خالداً وذكرنا أن الموت يذبح يوم القيامة كما ذكرنا ان الدار الآخرة هي الحيوان ومعنى هذا ان الأرض وكل شيء فيها لايموت، ولكن حال آدم وزوجته يختلف فبذلك وسوس له الشيطان ليغريه بالخلد الذي لا يمتلكه
قال الله( فَوَسۡوَسَ إِلَیۡهِ ٱلشَّیۡطَـٰنُ قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡك لَّا یَبۡلَىٰ (١٢٠) فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَ ٰ تُهُمَا وَطَفِقَا یَخۡصِفَانِ عَلَیۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰۤ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ (١٢١) ثُمَّ ٱجۡتَبَـٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَیۡهِ وَهَدَىٰ) صدق الله العظيم
فالآن اذا دققنا سنجد ان هذه الآيات جواب لقوله تعالى ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا یَـٰمُوسَىٰ (٤٩) قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِیۤ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَیۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ (٥٠) قَالَ فَمَا بَالُ ٱلۡقُرُونِ ٱلۡأُولَىٰ (٥١) قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّی فِی كِتَـٰب لَّا یَضِلُّ رَبِّی وَلَا یَنسَى)، فالله تاب على آدم من نسيانه الذي تسبب في ارتكابه لمعصية وحتى ان كانت صغرى ثم هداه الله
وبعد هذا قال الله ( قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِیعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّ فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ) صدق الله العظيم
والآن بعد ربط الآيات ببعضها البعض سنجد أن قوله تعالى ( ۞ مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ)، تلخص الكثير من أصل القصة المذكورة في سورة طه، فمن الأرض خلق الله سيدنا آدم، وفيها يعيدنا كما أعاد الله سيدنا آدم ( قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِیعَۢاۖ)، ومنها يخرجنا يوم المحشر من الأجداث ثم يخرج المؤمن من ارض المحشر الى الجنة
وقد يسأل أحدهم، ولكن قوله تعالى ( وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ)، هل هذا الوجه يخص سيدنا آدم فقط؟
الجواب وقد ظهر لنا انه ليس بوجه بل تكمله للمعنى الموجود في كتب التفسير، وهذا المعنى لا يخص فقط سيدنا آدم بل يخص كل البشر فعند الموت يتحقق هذا في صعود الروح. وكما ذكرنا في تدبرات سابقة فان الجسد يبقى الى قيام الساعة ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ) صدق الله العظيم
قال الله ( ٱللَّهُ یَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِینَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِی لَمۡ تَمُتۡ فِی مَنَامِهَاۖ فَیُمۡسِكُ ٱلَّتِی قَضَىٰ عَلَیۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَیُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰۤ إِلَىٰۤ أَجَل مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰت لِّقَوۡم یَتَفَكَّرُونَ)، وقال ( إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰبُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُجۡرِمِینَ) صدق الله العظيم
فسيدنا آدم هو أول خلق الله من الناس وكان بجسده وروحه في الجنة ثم هبط الى الأرض، وبعد الحساب، يرجع من آمن من الناس الى الجنة ( كَمَا بَدَأۡنَاۤ أَوَّلَ خَلۡق نُّعِیدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَیۡنَاۤۚ إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِینَ)، فيدخل البشر مرة أخرى الى الجنة كأول خلق الله سيدنا آدم بالجسد وحتى بصورة وجهه
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ : اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ . فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ . فَقَالُوا : السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ ).
رواه البخاري ومسلم
وفي الآخرة وبعد الحساب تصعد الروح مع الجسد بينما قبل هذا فالروح تصعد دون الجسد ويكون الجسد في التراب وبهذا يكون معنى قوله تعالى ( وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ)، قد أكتمل فالروح ترجع الى مكانها ثم الى المحشر ومن المحشر الى الزمر المخصصة لكل عبد من عباد الله
ولتأكيد صحة هذا القول نجد الحديث الطويل الذي رواه أحمد وهذه مقدمته التي تفيد بصحة كل ماسبق
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ مِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ زَاذَانَ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : ” اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ “. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ : ” إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ “. قَالَ : ” فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ “. قَالَ : ” فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ – يَعْنِي بِهَا – عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا : مَا هَذَا الرَّوْحُ الطَّيِّبُ ؟ فَيَقُولُونَ : فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ ؛ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. إسناد صحيح على شرط الشيخين
نرجع الى سورة طه لتأكيد صحة اتخاذ آية (مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ ) محور للسورة
في آخر السورة يذكر الله شيء عن المحشر وعن المشركين فيتوجه الخطاب لمن كفر بما انزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم
قال الله ( ﴿قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِیعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّ فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ (١٢٣) وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَة ضَنكا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِیۤ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِیرا (١٢٥) قَالَ كَذَ ٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَایَـٰتُنَا فَنَسِیتَهَاۖ وَكَذَ ٰلِكَ ٱلۡیَوۡمَ تُنسَىٰ) صدق الله العظيم
وهنا الحكمة في موضوع النسيان فكما عميت عن ذكر ربك، وعشيت عنه ونسيته ونسيت حظك منه، أعمى الله بصرك في الآخرة، فحشرت إلى النار أعمى، أصم، أبكم، وأعرض عنك، ونسيك في العذاب
ثم قال الله( أَفَلَمۡ یَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ یَمۡشُونَ فِی مَسَـٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰت لِّأُو۟لِی ٱلنُّهَىٰ) صدق الله العظيم
فبعد كل هذه الأمثلة عن القرون الأولى كيف تنسون أيها المشركين؟ كيف تكفرون؟ بعد كل هذه العبر تكفرون؟